الواضح الجليّ أن الحداثة لم تفي بوعودها، ولم يعد يمكن التصديق بأفقها الموهوم. فمثلًا، منذ تجربة ألمانيا النازية لم يعد بالإمكان التمسك بـ 'العقلانية'" ووعود '"ابستمولوجيا التنوير'"."
تفكيك الاستعمار كنموذج 'حضاري'""
خلال العقود الأخيرة، وبالتحديد منذ الحرب العالمية الثانية، بدأ يظهر وكـأن ما سُميّ بالحداثة – الحداثة التي دار مدارها جلّ الخطاب العام و الفكري و السياسي و الاقتصادي في العالم منذ مئات السنين – قد وصل إلى طريقٍ مسدود، بل وكأنه قارب على النهاية: من انهيار دعوى ديمقراطية الدولة القومية الغربية تحت وطاة النيوليبرالية و دولة المراقبة؛ إلى التفاقم المستمر و المتزايد في الفوارق الاجتماعية و الطبقية؛ وإلى الممارسات الإقصائية والعنصرية المتنايمة في بقاع الغرب؛ وصولًا إلى الأزمات البيئية الغامرة تحت شعار النمو الاقتصادي والتطور التكنولوجي.
فالواضح الجليّ أن الحداثة لم تفي بوعودها، ولم يعد يمكن التصديق بأفقها الموهوم. فمثلًا، منذ تجربة ألمانيا النازية لم يعد بالإمكان التمسك بـ "العقلانية" ووعود "ابستمولوجيا التنوير". و مع تزايد الهوّة بين الطبقات الإجتماعية في القرن الواحد و العشرين، وتنامي استغلال الفقراء في الشمال و الجنوب لمصلحة الأغنياء القِلّة، لم تعد الشعوب قادرة على انتظار منظومة الرأسمالية الوهمية حتى تقدم مقومات الحياة الممنوعة. وكذلك مع تغير المناخ و تدمير البيئة تحت وطاة المنظومة الانتروبومركزية، لم يعد يمكن تقبل "العلوم الحديثة" و"التكنولوجيا" كمصدر الخلاص.
و من هذا المنطلق، بدأ إنشاء وظهور مجموعات و مدارس فكرية (في كل من جنوب العالم وشماله)، تهدف لفهم حقيقة مشروع الحداثة و تعيد النظر فيه لتصل إلى إنتاج منظومات جديدة. و في الغرب كان ذلك مع مدارس نقدية شتىّ منذ خمسينيات القرن الماضي، عملت من داخل ابستمولوجيا الغرب ذاته وصولًا اليوم الى أمثال الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور وآيمي ألن الأميركية التي قدّمت نقدًا جبّارًا لالتزام مدرسة فرانكفورت النقدية بفكر التنوير، في سعي ناشء للتحرر من براديغم أوروبا.
أماّ في عالم الجنوب، حيث ظهرت أكثر هذه الحركات وعدًا، لمع مؤخرًا جمع من المفكرين في كل من أفريقيا وأميركا اللاتينية متصدين للعمل الفكري الفلسفي بل و للحراك الإجتماعي، لتحدي المشروع الإستعماري المستمر.
و من أبرز هذه الحركات مجموعة تُعرف باسم تكتل الدراسات الديكولونيالية لأمريكا اللاتينية، التي تصدّرت و أصدرت على مدى العقدين الأخيرين، نقداً عميقًا و ممنهجًا أعاد النظر بسَرديّاتٍ مهيمنةٍ منذ مئات السنين على العلوم الاجتماعية و الإنسانية والفلسفية. و في هذا الإطار، عمِل منظّري هذه المدرسة على معالجة مروحةِ أسئلةٍ واسعة تشمل: استعمار المعرفة، واستعمار السلطة، و استعمار الوجود .و أتموا تصوير"تشكيلة القوة الاستعمارية" المتألفة من ابعاد الاقتصاد، و السلطة، الجنس و الجنسانية، الذانتية والمعرفة الأربعة. و قد استندت هذه المدرسة الأميريكو-لاتينية في هذا المجال إلى إلهامٍ فلسفيٍ مستقًى من الفيلسوف المكسيكي الأرجنتيني إنريكي دوسيل وعالم الاجتماع البيروفي أنيبال كيخانو، مع فلسفات و نماذج حياة مرتكزة في رؤى شعوب الأميركيتين الأصليين الكونية.
و من أسس تفكير المجموعة إعادة كتابة "جينيلوجيا الحداثة" و تاريخها كمشروع بدأ عام1492 مع حركات ثلاث: الأولى سقوط غرناطة و طرد المسلمين و اليهود من الأندلس فبداية تراجع القوة الإسلامية.
أما الثاني فهو انطلاق مشروع التحالف الكنسي-الملَكي للسيطرة على الداخل الأوروبي يإرهاب ممنهج، سعى لمحو كل اختلاف و تعدد في بقاع الممالك الأوروبية. و في هذا السياق، تم منع و تجريم و اضطهاد كل فكر مختلف عبر إحراق الكتب والمكتبات وطمس اللغات و إطلاق يد محاكم تفتيش للقتل و التنكيل فمطاردة "الهراطقة" و"الساحرات".
أماّ الثالث، و الأكثر تأثيرًا، فكان شغف أحلام الإمبراطورية لدى الممالك الأوروبية، التي ذهبت تسعى للتوسع نحو الأمريكيتين. و عبر القتل و النشر المتعمد للأمراض و الأوبئة و النهب و التجويع، فاغتصاب الفكر و الأرض و حرق المكتبات و سياسات الفتن نجحت الممالك الأوروبية، لأسباب لا يسعها هذا المقال، يإبادة مجتمعات بل أعراق مع ما عندها من حضارة وتراث ولغات و علوم. و مع ذلك بدأت ثروات الأمريكيتين تتدفق إلى الأراضي الأوروبية، فتكدّست الثروات المنهوبة و الموارد المغصوبة. و عليه، بدأ توسع أوروبا العالمي في جميع الاتجاهات، فانطلقت في مشاريع استعمارية في ما يعرف اليوم بالقارات الخمس. هنا، تكوّن و ظهر من رحم الاستعمار النظام العالمي الحداثوي.
و من هذا المرتكز، عملت المجموعة على تطوير مفهوم الكولونيايلية لفضح الحداثة على أنها مشروعٌ محددٌ، ضيق الأفق والماهية يدور مدار اخفاء الاستعمار في ساحات الفكر والسلطة و الحياة المتعددة. والكولونيالية ليست الاستعمار بمفهومه السياسي أو الاقتصادي (مع أنها تشمل ذلك) بل هي "تشكيلة قوّة استعمارية شاملة"، عالمية مستقلة عن الاستعمار بتعريفه التقليدي. وهي تشكيلة تتألف من فرض قالب ابستيمي و سياسي و إقتصادي و ثقافي و اجتماعي و معاش و غيرها، منبثق من خصوصيات التجربة الأوروبية، ويتم فرضه بأساليب مختلفة و عبر فاعليات متعددة على أنه جامع و عالمي و مطلق صالح لكل مكان و زمان، و مقتطع عن ترابط إنتاج التجربة البشرية. و تقوم لذلك هذه المنظومة بإيجاد و فرض هيكل تسلسل هرمي بين ابستيميات و حضارات و نماذج حياة شعوب العالم، قوامه مع تسلسل هرمي في انسانية البشر - حيث تجعل الانسانية مقاس على حسب الفارق الكولونيالي.
إن الخوض في نتاجات هذه المدرسة و نموّها على يدَي أمثال والتر مينجولو ورامون جروسفوجويل، هو خارج نطاق ومستوعَب هذا المقال. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن جهد هذه المدرسة الأساس، يدور حول الأهداف المنهجية للحداثة/الاستعمار التي في طليعتها : فرض النموذج الأوروبي المشروط على أنه المال الطبيعي للشعوب البشرية بل على أنه حتمية تاريخية و النتاج الضروري للتطور البشري، فقدّم التاريخ على أنه ذات مساق واضح، يجري في اتجاه واحد من ماض إلى مستقبل - اتجاهها- ويخضع لمنطقواحد - منطقها- و له أفق واحد -هو هي. و قد كان ذلك في المجالات شتّى: من الفلسفة إلى العلوم الطبيعية فالعلاقة بالوجود، و من فيه من طبيعة و كائنات، فالهندسة و المدنية و الطب و الاستهلاك.
ثانيًا، الاعتداء الممنهج على كل اختلاف و تنوع لتستحوذ الحداثة على حصرية التمثيل، وتُثبّت وتقدم نفسها على أنها وحدها الحق والمشروعية والموضوعية والعلم والتطور، ليخفي اخفاقتها في تامين العدل و السعادة الأخلاقيةالإنسانية.
ثالثًا ، صناعة الفوارق بين البشر والتركيز عليها، لإيجاد تسلسل هرمي عنصري للإنسانية و ذلك تمهيدًا لعملية الإستغلال أولاً ثم المحو ثانياً. وبذلك أوجدت أمثال الاستشراق الداخلي وعقد النقص الذاتية، بناءً على حركة ماكنة الكولونيالية التي أصبحت اليوم لها حركة داخلية تعيد انتاجها تحت إطار الإمبريالية العالمية الراسمالية العنصرية، استمرارًا لحركتها المنطلقة عام 1492.
وفي هذا السياق فقد طوّرت المجموعة، فهم للآليات المحددة التي تستخدمها الكولونيالية لمحو تعددية العالم وفرض عالم أورومركزي في شتى الصعد، وعلى مختلف العوالم لينطلق في البحث عن سبل الممانعة والمقاومة التي لا تعيد إنتاج الكولونيالية في نفس مقاومتها كم فعلت الكثير من حركات معادات الإمبريالية في العقود الأخيرة، من محاولات بناء الدولة الحديثة إلى القوميات الصاعدة إلى بناء البنى التحتية للمواصلات مثلًا. ومن هنا، رفضت المجموعة الحداثة وتصنيفاتها ومعاييرها ونموذجها المدّعىى على الصعد كافة، وبدأت السعي نحو نماذج أنظمة سياسية واجتماعية وطبية وعلمية واقتصادية وغذائية وسلوكية وغيرها، تقطع قطيعة راديكالية مع منظومة الثنائيات والقوالب والمادية والأداتية والامبيريقية والبيروقراطية والمؤسسات والعقلائية الضيقة والعالمية الأحادية والملذات المعتدية وغيرها، لإعادة صناعة عالم يتسع لعوالم متعددة.
في أميركا اللاتينية دوسال وكيخانو هما نجمان لامعان ذوا قاعدة شعبية ضخمة خاصةً في الأوساط الجامعية. و قد بدأ العمل تحت تأثيرهما وبالتعاون بين فاعليات و قوى مختلفة أنتجت حراك اجتماعي و فكري عضوي ضاغط، نحو إعادة إنتاج راديكالي للمناهج التعليمية، خاصةً النموذج الجامعي الغربي، كمقدمة لإعادة إنتاج نموذج حضاري بديل.
و في أفريقيا عام 2015 بدأت حركة طلابية في جامعة كايب تاون في أفريقيا الجنوبية، للمطالبة بنزع تمثال "سيسبل رودز"، أحد المستعمرين البريطانيين، من حرم الجامعة. وقد عُرفت الحركة"Rhodes Must Fall" بـ ومارست حملة مميزة أوصلتها إلى تحقيق مطالبها. وما لبث أن توسع هذا الحراك على نطاق أفريقيا الجنوبية، للمطالبة بنقد إستعمارية المناهج التدريسية والخروج من أورومركزية النموذج التعليمي و الفكري الحاكم، إضافة إلى استرداد السلطة والموارد من الاستعمار المستمر. و في غضون بضعة أشهر، تحولت هذه الحركة إلى حركة عالمية، انتشرت في بقاع عالم الجنوب وأطلقت تحالفات جنوب-جنوب بحثًا عن عدالة وعتق خارج المنظمومة العالمية المهيمنة.
امّا اليوم فقد وصل ضغط هذه الثورة لمختلف الشخصيات والمؤسسات الفكرية في الغرب، ومن بينها أكبر وأرقى جامعات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، التي أطلقت برامج مخصصة لنقد "كولونيالية" المناهج التدريسية النموذج التعليمي الأكاديمي الحاكم، تحت وطاة فعاليات و تطورات مختلفة. و قد صدر في هذا المجال عدد من الكتب، و نشطت عدة حملات على صعدٍ مختلفة. و بذلك بدأت حركة فكرية لكشف الستار، إعادة كتابة التاريخ و الفكر و السياسة و الاجتماع و الاقتصاد والعلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية وغيرها، لصناعة بديل حضاري يدور مدار العدل، ويعيد فتح باب التعددية ويسترد ما قد فقد على مدى نصف الألفية الأخيرة.
"Related Posts
كاتب وباحث لبناني مقيم في بريطانيا